فصل: فصل في ذكر شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في النون:
وقد ورد على وجوه:
1- حرف من حروف التهجّى ذوْ لقِىٌّ، مخرجه قرب مخرج اللام.
يذكّر ويؤنث، والنسبة نونىّ؛ وقد نوّنت نونا حسنا وحسنة، جمعه: أنوان ونُونات.
2- اسٌم لِعدد الخمْسِين في حِساب الجُمّل.
3- النون الأصلىّ؛ مثل نون: نجم، ومنع، وعجن.
4- النون المكرّرة في باب التفعيل؛ نحو: فنّن.
5- النون الكافية: التي تكون كناية عن كلمة تامّة نحو: {ن والْقلمِ}
6- نون التنوين، نحو: ربّ ونبىّ.
وهذا لا يكون له في الخطِّ صورة إلاّ في كأيِّنْ.
7- نون التثنية {مّن الضّأْنِ اثْنيْنِ ومِن الْمعْزِ اثْنيْنِ}.
8- نون جمع السّلامة، ويكون مفتوحا أبدا: {إِن كُنتُمْ صادِقِين} {أيُّها المؤمنُوِّن} ويكون في جمع التكسير مُعْربا نحو إخْوان وجيران.
9- نون الإِعراب الذي يكون دليل الرفع في الأمثلة الخمسة: {فآخرانِ يقُومانِ}، {يدْخُلُون فِي دِينِ اللّهِ أفْواجا}، {أتعْجبِين مِنْ أمْرِ اللّهِ}.
10- نون المطاوعة في الفعل، كقوله تعالى: {فإِذا انسلخ الأشْهُرُ الْحُرُمُ}، {فانفجرتْ}، {فانفلق}.
11- نون الاستقبال: {إِنّا نحْنُ نزّلْنا الذِّكْر}.
12- نون الضمير: {إِلاّ أن يعْفُون}، {يأْكُلْن ما قدّمْتُمْ لهُنّ}.
13- نون التوكيد: {ولأُضِلّنّهُمْ ولأُمنِّينّهُمْ} {فإِمّا تثْقفنّهُمْ}.
14- النون الزّائدة وتكون في الأوّل نحو: نعلمهم، وفى الثانى نحو: عنْسل ومنْدل، وفى الثالث نحو: جحنفل وغضنْفر، وفى الرابع نحو: رعْشن وضيْفن، وفى الخامس نحو: فرس فلتان وفى السادس نحو: زعْفران وترجمان، وفى السابع نحو: قرعْبلانة.
15- النون المبدلة من اللام: هتلت السّماء وهتنت، والمبدلة من.
الهمزة، نحو: صنْعانّى في النسبة إلى صنْعاء.
16- النون اللُّغوىّ.
قال الخليل: النون: الحرف المعروف،
والدّواة، وجمع نونة الذقن، وشفرةُ السّيف، والحوتُ؛ وفى الحديث: «دسِّمُوا نُونته» يعنى نونة الذقن، وفى الدّواة مثل: {ن والْقلمِ}، وقال في السّيف.
سأجعلُه مكان النُّون مِنِّى ** وما أُعطيت من عزّ الجلال

وبمعنى الحوت قال الله تعالى: {وذا النُّونِ إِذ ذّهب مُغاضِبا}.
قال الشّاعر:
عيْنان عيْنان ما فاضت دُموعهما ** لِكُلِّ عيْنٍ من العيْنينِ نُونانِ

نُونانِ نُونانِ لم يكتبْهُما قلمٌ ** في كلّ نون من النّونيْن نُونانِ

وجمع نُون الحوت: نِينانٌ وأنْوانٌ.
ولو قيل: نُنْ في الشعر جاز. اهـ.

.فصل في ذكر شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:

قال المقريزي:
قال الله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} [68: 4] قال ابن سيده: والخلق والخلق الخليقة، أعني الطبيعة، وفي التنزيل: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} [68: 4]، والجمع أخلاق، وتخلق بخلق كذا: استعمله من غير أن يكون موضوعا في فطرته، وفي قوله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} 68: 4 ثلاثة أقوال:
أحدهما: دين الإسلام، قاله عبد الله ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن وعطية العوفيّ.
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن»، تعني كان على ما أمره الله به في القرآن، واختار هذا القول الزّجاج.. والثالث: أنه الطبع الكريم، وهذا القول هو الظاهر، وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، وسمي خلقا لأنه يصير كالخلقة في الإنسان.
وأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخير، فيكون الخلق هو الطبع المتكلف، والخير هو الطبع الغريزي، وقد اجتمع في رسول الله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق، وشهد له به تعالى بالحكمة البالغة، والأخلاق السمية الرفيعة، والمنازل العلية الرصينة.
قال أبو القاسم: سمي خلقه عظيما، لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى.
وقال لأنه امتثل أمر ربه في قوله تعالى: {خُذِ الْعفْو وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين} [7: 199].
وخرّج البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى: {خُذِ الْعفْو} 7: 199، قال: «أمرني ربي أن آخذ العفو من أخلاق الناس».
وقيل: عظم خلقه حيث صغرت الأكوان في عينه بعد مشاهدة مكونها سبحانه، وكان صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها حيث سئلت عن خلقه: «القرآن، يغضب لغضبه، ويرضي لرضاه، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها إلا أن تنتهك حرمات الله. وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد»، فيكون غضبه لربه، وينفذ الحق وإن عاد ذلك بالضرر عليه وعلى أصحابه، وقد عرض عليه أن ينتصر بالمشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبي وقال: «إنا لا نستعين بمشرك».
وكان أشجع الناس وأسخاهم وأجودهم، ما سئل شيئا فقال لا، ولا يبيت في بيته درهم ولا دينار، فإن فضل ولم يجد من يأخذه وفجئه الليل لم يرجع إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عاما فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ثم يؤثر من قوت أهله حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام.
ولم يشغله الله تعالى من المال بما يقضي محبة في فضوله ولا أحوجه إلى أحد، بل أقامه على حد الغنى بالقوت، ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقرب من ربه تعالى.
وكان أحلم الناس، وأشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان خافض الطرف. نظره الملاحظة، لا يثبت بصره في وجه أحد تواضعا، يجيب من دعاه من غني أو فقير، وحر أو عبد، وكان أرحم الناس، يصغي الإناء للهرّة، وما يرفعه حتى تروى رحمة لها.
وكان أعفّ الناس، لم تمس يده يد امرأة إلا بملك رقّها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه، وكان أعدل الناس، وجد أصحابه قتيلا من خيارهم وفضلائهم، فلم يحف لهم من أجله على أعدائه من اليهود، وقد وجد مقتولا بينهم! بل وداه مائة ناقة من صدقات المسلمين وإن بأصحابه حاجة إلى بعير واحد يتقوون به، ووودي بني خزيمة وهم غير موثوق بإيمانهم، إذ وجب بأمر الله ذلك.
وكان أكثر الناس إكراما لأصحابه، لا يمد رجليه بينهم، ويوسع لهم إذا ضاق بهم المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدم ركبة جليسه، وكان له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا له، وإن أمر تبادروا لأمره، وكان يتحمل لأصحابه ويتفقدهم ويسأل عنهم، فمن مرض عاده، ومن غاب تفقده وسأل عنه، ومن مات استرجع فيه وأتبعه الدعاء له، ومن تخوّف أن يكون وجد في نفسه شيئا انطلق إليه حتى يأتيه في منزله.
ويخرج إلى بساتين أصحابه ويأكل ضيافتهم، ويتألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ويقبل معذرة المعتذر إليه، والضعيف والقوي في الحق عنده سواء، ولا يدع أحدا يمشي خلفه، ويقول:
خلّوا ظهري للملائكة، ولا يدع أحدا يمشي معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبي قال: تقدمني إلى المكان الفلاني.
ويخدم من خدمه، وله عبيد وإماء لا يرتفع عنهم في شيء من مأكل ولا ملبس، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمته نحوا من عشرين سنة، فو الله ما صحبته في حضر ولا سفر إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له. وما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا قال لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟!! وكان صلى الله عليه وسلم في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، عليّ ذبحها وقال آخر عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ طبخها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليّ جمع الحطب»! فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال: «قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» وقام فجمع الحطب.
وكان في سفر فنزل إلى الصلاة ثم كر راجعا، فقيل: يا رسول الله، أين تريد؟ قال: «أعقل ناقتي» فقالوا: نحن نعقلها. قال: «لا يستعين أحدكم بالناس في قضمة من سواك». وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر. وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه. لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم صلى الله عليه وسلم حتى يقوم الّذي جلس إليه، إلا أن يستعجله أمر فيستأذنه، ولا يقابل أحدا بما يكره، ولا يجزي السيئة بمثلها.
بل يعفو ويصفح. وكان يعود المرضى ويحب المساكين ويجالسهم. ويشهد جنائزهم. ولا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظم النعمة وإن قلت.
ولا يذم منها شيئا: وما عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وكان يحفظ جاره ويكرم ضيفه، وكان أكثر الناس تبسما، وأحسنهم بشرا، ولا يمضي له وقت في غير عمل الله، أو فيما لابد منه، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون إثما أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس منه.
وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره من الناس، ويمسح وجه فرسه بطرف ردائه.
وكان يحب الفأل ويكره الطيرة، وإذا جاءه ما يحب قال: «الحمد للّه رب العالمين»، وإذا جاء ما يكره قال: «الحمد للّه على كل حال»، وإذا رفع الطعام من بين يديه قال: «الحمد للّه الّذي أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين». وكان أكثر جلوسه وهو مستقبل القبلة، ويكثر ذكر الله تعالى، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ويستغفر في المجلس الواحد مائة مرة، وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وكان يقوم الليل في الصلاة حتى ورمت قدماه.
وكان يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء. وقلما كان يفطر يوم الجمعة، وكان أكثر صيامه في شعبان، وكان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
وكان عليه السلام تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحي، وإذا نام نفخ ولا يغط وإذا رأى في منامه ما يكره قال: «هو الله لا شريك له»، وإذا أخذ مضجعه قال: «رب قني عذابك يوم تبعث عبادك»، وإذا استيقظ قال: «الحمد الله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور». وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية ويكافئ عليها، ولا يتأنق في مأكل، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع! هذا وقد آتاه الله مفاتح خزائن الأرض فلم يقبلها، بل زهد في الدنيا، واختار عليها الله والدار الآخرة.
وأكل الخبز بالخلّ وقال «نعم الإدام الخلّ»، وأكل لحم الدجاج ولحم الحباري، وكان يأكل ما وجد، ولا يرد ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضر، ولا يتورع عن مطعم حلال، إن وجد تمرا دون خبز أكله، وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز برّ أو شعير أكله، وإن وجد حلوى أو عسلا أكله، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان له من أصحابه من يبرد الماء وقال للهيثم بن التيهان «كأنك علمت حبنا للحم»، وكان لا يأكل متكئا، ولم يأكل على خوان، ولم يشبع من خبز برّ ثلاثا تباعا حتى لقي الله عز وجل، وكان يفعل ذلك إيثارا على نفسه، لا فقرأ ولا بخلا.
وكان يحضر الوليمة إذا دعي إليها، ويجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدايا ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، وكان يحب من المأكل الدباء وذراع الشاة، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، وكان منديله باطن قدميه، ويأكل خبز الشعير بالتمر، وأكل البطيخ بالرطب، والقثاء بالرطب، والتمر بالزبد، وكان يحب الحلوى والعسل، ويشرب قاعدا، وربما شرب قائما، وكان يتنفس في الإناء ثلاثا، مبينا للإناء عن فمه، ويبدأ بمن عن يمينه إذا سقاه، وشرب لبنا وقال: «من أطعمه الله طعاما فليقل: اللّهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل اللّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه». وقال: «ليس شيء يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن وشرب النّبيذ الحلو» (و هو الماء الّذي قد نقع فيه تمرات يسيرة حتى يحلو)، وكان يلبس الصوف وينتعل بالمخصوف، ولا يتأنّق في ملبس، ويحب من اللباس الحبرة (و هي برود من اليمن فيها حمرة وبياض).
وأحب الثياب إليه القميص، وكان يقول إذا لبس ثوبا استجدّه «اللّهمّ لك الحمد كما ألبستنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» وتعجبه الثياب الخضر، وربما لبس الإزار الواحد. أو عليه غيره، يعقد طرفه بين كتفيه، ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم ويلبس خاتما من فضة نقشه (محمد رسول الله) في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر.
ويحب الطيب ويكره الرائحة الكريهة، ويقول: «إن الله جعل لذتي في النساء والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة»، وكان يتطيب بالغالية والمسك ويتطيب بالمسك وحده، ويتبخر بالبخور والكافور، ويكتحل بالإثمد، وربما اكتحل وهو صائم، ويكثر دهن رأسه ولحيته، ويدهن غبّا ويكتحل وترا، ويجب التيمن في ترجله وفي تنعله وفي طهوره وفي شأنه كله. وينظر في المرآة، ولا تفارقه قارورة الدهن في سفره، والمرآة والمشط والمقراض والسواك والإبرة والخيط، ويستاك في ليله ثلاث مرات: قبل نومه وبعده، وعند القيام لورده، وعند القيام لصلاة الصبح، وكان يحتجم.
وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، قد جمع الله له كمال الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأتاه علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، ولا معلم له من البشر، بل نشأ في بلاد الجهل والصحاري، وآتاه الله ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره على الأولين والآخرين، وعصمه من الناس. ورفع له ذكره، وضمن له إظهار دينه على الدين كله. وجعل شانئه الأبتر، وأعزه بالنصر على كل عدوّ، وأوجب طاعته على جميع الإنس والجان، وأكرمه برسالته، وأمنه من كل بشر، وأكب عدوه لوجهه، وغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم. وسيأتي هذا في مظانه مبسوطا إن شاء الله تعالى.
أما حسن خلقه فخرج من حديث أبي بكر بن شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر العبديّ، حدثنا سعيد بن أبي عروة، حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام أنه قال لعائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألست تقرأ القرآن»؟ قال: بلى، قالت: «فإن خلق رسول الله كان القرآن».
وخرج الإمام أحمد من حديث مبارك عن الحسن عن سعد بن هشام بن عامر قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله: قالت: «كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} [68: 4]» الحديث.
وقال قتيبة بن سعيد: حدثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران عن يزيد ابن بابنوس [3]: قلنا لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت «كان خلق رسول الله القرآن»، ثم قالت: «تقرأ سورة المؤمنين، اقرأ {قدْ أفْلح الْمُؤْمِنُون} (23: 1)إلى العشر، فقرأ حتى بلغ العشر آيات، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وقال زيد بن واقد عن بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي الدرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه».
وخرّج البخاري من حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل فينتقم للّه بها».
لم يذكر فيه مسلم (فينتقم الله بها)، وفي لفظ: «ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتي إليه قط حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم للّه»، ولم يذكر مسلم في حديث مالك (فينتقم للّه).
وقال البخاري في رواية: «والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتي إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم للّه».
وفي لفظ له عن عائشة قالت: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتي إليه حتى ينتهك من حرمات الله، فينتقم للّه».
ولمسلم من حديث أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه».
وفي لفظ: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله عن رجل، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله عز وجل فينتقم».
وخرّج الإمام أحمد من حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له قط، ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل من شيء فانتقمه إلا من صاحبه إلا أن ينتهك محارم الله فينتقم للّه عز وجل، وما عرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما إلا أن يكون مأثما، فإنه كان أبعد الناس منه».
ولابن سعد من حديث وكيع عن داود بن أبي عبد الله عن ابن جدعان عن جدته عن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل وصيفة له فأبطأت، فقال: لو لا القصاص لأوجعتك بهذا السواك». وخرّجه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلي به، وروي منصور بن المعتمر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت-: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من ظلامة ظلمها قط، إلا أن ينتهك من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما».
وفي لفظ: «ما رأيت رسول الله منتصرا من ظلمة قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدّهم في ذلك غضبا، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما».
وروي محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراما، فإن كان حراما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من شيء يصاب منه إلا أن تعاب حرمة الله فينتقم للّه».
وخرّج البخاري في الأدب المفرد من حديث محمد بن سلام: أخبرنا يحيى بن محمد أبو محمود البصري قال: سمعت عمر مولى المطلب قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لست من دد، ولا الدّد مني، يعني ليس الباطل مني بشيء».
وخرّج البخاري في كتاب الديات في باب من استعان عبدا أو صبيا، من حديث إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيّس فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر، فو الله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟».
وخرجه مسلم بنحوه.
وخرّج في كتاب الوصايا في باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له، من حديث ابن عليّة، أخبرنا عبد العزيز عن أنس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي» (الحديث بمثله)، غير أنه لم يقل (فو الله).
وخرّج في كتاب الأدب في باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، من حديث سلام بن مسكين: سمعت ثابتا يقول: أخبرنا أنس قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وما قال لي: أف، ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟».
وخرجه مسلم في المناقب من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفا قط، وما قال لي لشيء: لم فعلت كذا أو هلا فعلت كذا؟!» ومن حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة وأنا غلام، ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن يكون عليه، ما قال لي فيه: أف قط، ولا قال لي: لمفعلت هذا؟ وألا فعلت هذا؟».
وله من حديث زكريا قال: حدثني سعيد وهو ابن أبي برده عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليّ شيئا قط».
ولمسلم وأبي داود من حديث عمر بن يونس قال: أخبرنا عكرمة- وهو ابن عمار- قال: قال إسحاق: قال أنس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة فقلت: لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به، رسول الله، فخرجت حتى أمرّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟ قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. وقال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟».
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي معاوية عن جعفر بن برقان عن عمران القصير عن أنس قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط لم تهيّأ إلا قال: لو قضي لكان، أو لو قدر لكان». ولمسلم من حديث عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا».
وخرّج البخاري من حديث عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير: أحسبه فطيم، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير: ما فعل النّغير؟- نغز كان يلعب به- فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الّذي تحته، فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلي بنا». ترجم عليه (باب الكنية للصبي).
وخرّجه مسلم ولفظه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير قال: وأحسبه قال: كان فطيما، فكان إذا جاء رسول الله فرآه قال: أبا عمير، ما فعل النّغير؟ قال: فكان يلعب به». وخرّجه أبو داود من حديث حماد قال: حدثنا ثابت عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزينا، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره! فقال: يا أبا عمير، ما فعل النّغير؟» ترجم عليه. (باب الرجل يتكني وليس له ولد).
وفي هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستون وجها، جمعها أبو العباس أحمد بن القاصّ الفقيه الشافعيّ في جزء.
قال أبو العباس بن القاصّ رحمه الله تعالى: وفيما روينا من قصة أبي عمير ستون وجها من الفقه والسنة، وفنون الفائدة والحكمة، فمن ذلك: أن سنة الماشي أن لا يتبختر في مشيته ولا يتبطأ فيها، فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشي توكأ كأنما ينحدر من صبب. ومنها أن الزيارة سنة. ومنها الرخصة للرجال في زيارة النساء غير ذوات المحارم (إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة). ومنها زيارة الحاكم للرعية. ومنها أنه إذا اختصّ الحاكم بالزيارة والمخالطة بعض الرعية دون بعض فليس ذلك بميل، وقد كان بعض أهل العلم يكره للحكام ذلك. وإذا ثبت ما وصفنا كان فيه وجه من تواضع الحاكم للرعية. وفيه دليل على كراهية الحجّاب للحكام. وفيه دليل أن الحاكم يجوز له أن يسير وحده. وأن أصحاب المقارع بين يدي الحكام والأمراء محدثة مكروهة، لما روي في الخبر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على ناقة له، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك». وفي قوله: «يغشانا ما يدل على كثرة زيارته لهم». وأن كثرة الزيارة لا تخلق الحب والمودة ولا تنقصها إذا لم يكن معها طمع. وأن قوله عليه السلام لأبي هريرة: «زر غبّا تزدد حبا»، كما قاله بعض أهل العلم لما رأى في زيارته من الطمع لما كان بأبي هريرة من الفقر والحاجة حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم في مزودة، وكان لا يدخل فيها يده إلا أخذ حاجته، فحصلت له الزيارة دون الطمع. وفي قوله: «يخالطنا»، ما يدل على الألفة، بخلاف النفور، وذلك من صفة المؤمن، كما روي في بعض الأخبار: المؤمن ألوف والمنافق نفور. ومنها ما روي في الخبر: «فرّ من الناس فرارك من الأسد»، إذا كانت في لقيهم مضرة لا على العموم، فأما إذا كانت فيه للمسلمين ألفة ومودة فالمخالطة أولى. وفيه دلالة على الفرق بين شباب النساء وعجائزهن في المعاشرة، إذ اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من رآه واقفا مع صفية، ولم يعتذر من زيارته أم سليم، بل كان يغشاهم الكثير. وفي قوله: «ما مسست شيئا قط ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم» ما يدل على مصافحته، وإذا ثبتت المصافحة، دلّ على تسليم الزائر إذا دخل. ودلّ على مصافحته، ودلّ على أن يصافح الرجل دون المرأة، لأنه لم يقل: «فما مسسنا» وإنما قال: «ما مسست»، وكذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم في التسليم على النساء ومبايعته، إنما كان يصافح الرجال دونهن. وفي لين كفه ما يدل على أنه لا ينبغي أن يعتمد المصلّي إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود، كما اختار ذلك بعضهم، لما وجد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان شثن الكفين والقدمين، فقال: ينبغي أن يعتمد إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود، ليؤثر على يديه دون جبهته. وفيه ما يدل على الاختيار للزائر إذا دخل على المزور. وفيه ما يدل على ما قاله بعضهم أن الاختيار في السنّة الصلاة على البساط والجريد والحصير، وقد قيل في بعض الأخبار أنه كان حصيرا باليا، وذلك أن بعض الناس كان يكره الصلاة على الحصير، وينزع بقول الله تعالى: {وجعلْنا جهنّم لِلْكافِرِين حصِيرا} «17: 8». وفي نضحهم ذلك له وصلاته عليه مع علمه صلى الله عليه وسلم أن في البيت صبيا صغيرا، دليل على أن السنة ترك التعزر. ودليل على أن الأشياء على الطهارة حتى يعلم يقين النجاسة. وفي نضحهم البساط لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الاختيار للمصلى أن يقوم في صلاته على أروح الحال وأمكنها، لا على أجهدها وأشدها، لئلا يشغله الجهد عما عليه من أدب الصلاة وخشوعها، كما أمر الجائع أن يبدأ بالطعام قبل الصلاة، خلاف ما زعم بعض المجتهدين، إذ زعم أن الاختيار له أن يقوم على أجهد الحال، كما سمع في بعض الأخبار أنهم لبسوا المسح إذا قاموا من الليل وقيدوا أقدامهم. وفي صلاته في بيتهم ليأخذوا علمها دليل على جواز حمل العالم علمه إلى أهله: إذا لم يكن فيه على العلم مذلة، وأما روى في أن: «العلم يؤتى ولا يأتي»: إذا كانت فيه للعلم مذلة، أو كان من المتعلم على العالم تطاول. وفيه دلالة اختصاص لآل أبي طلحة، إذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتهم. وأخذهم قبلة بيتهم بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الدلائل والعلامات.
وفي قوله: «و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مازحه»، ما يدل على أنه كان يمازحه كثيرا، وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان: أحدهما: أن ممازحة الصبيان مباح. والثاني: أنها إباحة سنة لا إباحة رخصة، لأنها لو كانت إباحة رخصة لأشبه أن لا يكثرها، كما قال في مسح الحصى للمصلى: «فإن كنت لابد فاعلا فمرة»، لأنها كانت رخصة لا سنة. وفيه- إذ مازحه صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ترك التكبر والترفع. وما يدل على حسن الخلق. وفيه دليل على أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل من حاله إذا برز، فيكون في المنزل أكثر مزاحا، وإذا خرج أكثر سكينة ووقارا- إلا من طريق الرياء- كما روي في بعض الأخبار: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس إذا خلا بأهله، وأزمتهم عند الناس. وإذا كان ذلك كما وصفنا ففيه دليل على أن ما روي في صفة المنافق أنه يخالف سرّه علانيته ليس على العموم، وإنما هو على معنى الرياء والنفاق، كما قال جل ثناؤه: {وإِذا لقُوا الّذِين آمنُوا قالوا آمنّا وإِذا خلوْا إِلى شياطِينِهِمْ قالوا إِنّا معكُمْ إِنّما نحْنُ مُسْتهْزِؤُن} «2: 14». وفي قوله: «فرآه حزينا»: ما يدل على إثبات التفرس في الوجوه. وقد احتج بهذا المعنى بعض أهل الفراسة بما يطول ذكره. وفيه دليل على الاستدلال بالعبرة لأهلها، إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر في وجهه على الحزن الكامن في قلبه، حتى حداه على سؤال حاله.
وفي قوله: «ما بال أبي عمير؟» دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله.
وفيه دليل- كما قال بعض أهل العلم- على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين:
فإذا سألت أخاك عن حاله قلت: مالك؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة: «مالك يا أبا قتادة؟» وإذا سألت غيره عن حاله قلت: ما بال أبي فلان؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «ما بال أبي عمير؟». وفي سؤاله صلى الله عليه وسلم من سأل- عن حال أبي عمير- دليل على إثبات خبر الواحد.
وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له، وقد كان عمر بن الخطاب يكره ذلك حتى أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: «مات نغيره الّذي كان يلعب به»: تركه النكير بعد ما سمع ذلك صلى الله عليه وسلم دليل على الرخصة في اللعب للصبيان. وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا لم يكن من دواعي الفجور، وقد كان بعض الصالحين يكره لوالديه أن يخلياه. وفي دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال بالباطل، إذا لم يكن من الملاهي المنهية. وفيه دليل على إمساك الطير في القفص. وقصّ جناح الطير لمنعه من الطيران، وذلك أن لا يخلو من أن يكون النغيرة التي كان يلعب بها في قفص أو نحوه، من شدّ رجل أو غيره، أو أن تكون مقصوصة الجناح، فأيهما كان المنصوص، فالباقي قياس عليه، يكره.
وكان ابن الزبير يفتي بإمساك ذلك، ومن حجته فيه: أن من اصطاد صيدا ثم أحرم وهو في يده، فعليه إرساله، فكذلك إذا اصطاد في الحل ثم أدخله الحرم.
وفرّق الشافعيّ بين المسألتين كما وصفنا، فقال: من اصطاد ثم أحرم والصيد في ملكه فعليه إرساله، ومن اصطاده ثم أدخله الحرم فلا إرسال عليه. وفي قوله: «ما فعل النغير؟»، دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغّر النغيرة، وكذلك المعنى في قوله: كان ابن لأبي طلحة يكنى أبا عمير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مازحه بذلك يبكي، ففي ذلك دليل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إذا بكى اليتيم اهتز العرش»، ليس على العموم في جميع بكائه، وذلك أن بكاء الصبي على ضربين: أحدهما: بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة، والآخر: بكاء الحزن أو الخوف عند الظلم أو المنع عما به إليه الحاجة، فإذا مازحت يتيما أو لاطفته فبكى، فليس في ذلك- إن شاء الله تعالى- اهتزاز عرش الرحمن. وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل. وقال بعض أصحابنا، ليس كذلك، بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه، وكان في هذا الحديث كذلك دليل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم واجه الصغير بالخطاب عند المزاح فقال: «يا أبا عمير ما فعل النّغير؟»، ولم يواجه بالسؤال عند العلم والإثبات، بل خاطب غيره، فقال: «ما بال أبي عمير؟». وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم ولا يحمل الناس كلهم على عقله. وفي نومه صلى الله عليه وسلم عندهم دليل على أن عماد القسم بالليل، وأن لا حرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند امرأة في غير يومها. وفيه دليل على سنة القيلولة. وفي دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية- ونحو ذلك من الأفعال- دناءة تسقط مروءة الحكام. وفي نومه على فراشها دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم أو يلبس ثوبها وإن كان على تقطيع الرجال. وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على امرأة في منزلها وزوجها غائب وإن لم تكن ذات محرم له. وفي نضح البساط له ونومه على فراشها دليل على إكرام الزائر. وفيه أن التّنعّم الخفيف غير مخالف للسنة. وأن قوله: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأصغى بسمعه»، ليس على العموم إلا فيما عدا التنعم القليل. وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيّع الزائر إلى باب الدار- كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتشييع الضيف إلى باب الدار- إذ لم يذكر في هذا الحديث تشييعهم له إلى الباب.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هند بن أبي هالة: كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق: قال بعضهم: أراد به الطعام. وقال بعضهم: أراد به ذواق العلم. ففي تفسير هذا الحديث، الدليل على تأويل من تأوّله على ذواق العلم، إذ قد أذاقهم العلم ولم يذكر فيه ذواق الطعام. وكان من صفته صلى الله عليه وسلم أنه يواسي بين جلسائه، حتى يأخذ منه كل بحظ، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخوله على أم سليم: صافح أنسا، ومازح أبا عمير الصغير، ونام على فراش أم سليم، حتى نال الجميع من بركته صلى الله عليه وسلم، وزاد على الستين فقال:
وإذا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم، فأقل ما في تحفّظ طرقه أن يكون نافلة، وفيه أن قوما أنكروا خبر الواحد واختلفوا فيه: فقال بعضهم بجواز خبر الاثنين قياسا على الشاهدين، وقال وخرّج البخاري في كتاب الأدب في باب حسن الخلق وما يكره من البخل، من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس» (الحديث).
وخرّج في باب ما ينهي من السباب واللعن من حديث فليح بن سليمان أخبرنا هلال بن علي عن أنس بن مالك قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّابا، كان يقول عند المعتبة: ما له تربت جبينه». وخرّج البخاري من حديث شعبة عن سليمان، سمعت أبا وائل، سمعت مسروقا قال: قال عبد الله بن عمرو من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة عن مسروق قال: «دخلنا على عبد الله بن عمر حين قدم مع معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم يكن فاحشا ولا متفحشا»، وقال: قال رسول الله: «إن من أخيركم أحسنكم خلقا» (ذكره في كتاب الأدب وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم).
وخرّجه مسلم، ولفظه عن مسروق قال: «دخلنا على عبد الله بن عمرو حين قدم معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق» (زاد آدم: «ولم أر مثله قبله، ولم أر بعده»).
وذكر الوقدي «أن أعرابيا أقبل من تهامة، فقال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال سلّم على رسول الله، قال: وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: فأيكم رسول الله؟ قالوا هذا، قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: فما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا؟ قال سلمة بن سلامة بن وقش: نكحتها، فهي حبلي منك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وأعرض عنه»، ذكر ذلك في توجه رسول الله إلى بدر، ثم ذكره في عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر.
قال: ولقيه الناس يهنئونه بالروحاء بفتح الله، فلقيه وحوله الخزرج، فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الّذي تهنئوننا به؟ فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا ابن أخي، أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم»، فقال سلمة بن سلامة: أعوذ باللّه من غضبه، وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضا منذ كنا بالروحاء في بدأتنا، فقال رسول الله: «أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلي منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به، وأمّا ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تعالى تزهدها»، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم معذرته، وكان من علية أصحابه. وذكر الخطيب من حديث أبي داود: أخبرنا طلحة عن عبد الله عن عبيد الله عن أم سلمة قالت: «ما طعن رسول الله في حسب ولا نسب قط».
وخرّج البخاري في المناقب من حديث شعبة عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها»، وزاد في رواية: «وإذا كره شيئا عرف في وجهه، وذكره في كتاب الأدب ولفظه: فإذا رأي شيئا يكرهه عرفناه في وجهه» وخرّجه مسلم بنحوه.
ولأبي داود والبخاري في الأدب المفرد من حديث حماد بن زيد قال: حدثنا سلّم العلويّ عن أنس «أنّ رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّ ما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه!» وله من حديث الأعمش عن سليم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال من يقولون كذا وكذا؟».
وفي لفظ: «إذا بلغه الشيء عن الرجل لم قلت كذا وكذا» أثر ذكره.
وخرّج البخاري ومسلم من حديث مالك عن إسحاق عن أنس قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذا شديدا حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الّذي عندك، قال: فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء».
وخرّج الحاكم من حديث عبد الله بن يوسف التنيسي حدثنا عبد الله بن سالم، حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سالم عن أبيه عن جده، «أن زيد بن سعنة- كان من أحبار اليهود- أتي النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن. ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وإني بكم لعارف، قال: فانتهره عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر: أنا وهو كنّا إلى غير هذا منك أحوج، أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر وفّه حقّه، أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده ثلاثين صاعا لتزويرك عليه». قال الحاكم: صحيح الإسناد.
وخرّجه الفسوي من حديث الأعمش عن ثمامة بن عقبة عن زيد بن أرقم قال: «كان رجل من الأنصار يدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فدنا منه وإنه عقد له عقدا وألقاه في بئر، ففزّع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه ملكان يعودانه فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا وهي في بئر فلان، وقد اصفرّ الماء من شدة عقده، فأرسل الني صلى الله عليه وسلم فاستخرج العقد فوجد الماء قد اصفرّ، فحل العقد ونام النبي عليه السلام، ولقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيته في وجه النبي عليه السلام حتى مات».
ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث عباد بن العوام، عن النعمان بن ثابت عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أنس قال: «ما أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه بين يدي جليس قط، ولا ناول يده أحدا قط فتركها حتى يكون هو يدعها، وما جلس إلى رسول الله أحد قط فقام حتى يقوم، وما وجدت شيئا قط أطيب ريحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وخرّج الفسوي من حديث عمران بن زيد الملائي قال: حدثني زيد العمي عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافح أو صافحه الرجل. لا ينزع، وإن استقبله بوجهه لا يعرضه عنه حتى يكون الرجل ينصرف، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له».
وخرّج أبو داود من حديث مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس قال: «ما رأيت رجلا التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الّذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول الله أخذ بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الّذي يدع يده».
وفي الأدب المفرد للبخاريّ من حديث عبد الوارث، حدثنا عتبة بن عبد الملك، حدثني زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي، أن الحارث بن عمرو السهمي حدثه قال: «أتيت النبي وهو بمنى أو بعرفات، وقد أطاف به الناس، ويجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك، قلت يا رسول الله استغفر لي، فقال: اللّهمّ اغفر لنا، فدرت فقلت: استغفر لي فقال: اللّهمّ اغفر لنا، فدرت فقلت استغفر لي فقال: اللّهمّ أغفر لنا، فذهب بيده بزاقه ومسح به نعله، كره أن يصيب أحدا من حوله».
وخرّج الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عمر ابن عبد العزيز عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال: «كان رسول الله إذا جلس يتحدث كثيرا يرفع طرفه إلى السماء».
وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه».
وخرّج البخاري في كتاب الأدب من حديث ابن وهب، أخبرنا عمرو أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كن يتبسم».
وخرج مسلم بنحوه، وخرّج مسلم من حديث يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قال: «قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم، كثيرا ما كان لا يقوم من مصلاه الّذي يصلّى فيه الصبح حتى تطلع الشمس. فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم صلى الله عليه وسلم».
وخرّجه الترمذي من حديث شريك عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: «جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرّة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم» قال هذا حديث حسن صحيح.
وقال الليث بن سعد عن الوليد بن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد «أن نفرا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت فقالوا: حدّثنا عن بعض أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت جاره فكان إذا نزل الوحي بعث إليّ فآتيه فأكتب الوحي، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا يحدثكم عنه».
وخرّج البخاري في المناقب من حديث سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه». ومن حديث يونس عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: «ألا يعجبك أبا فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبّح فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم».
وخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدّث أن عائشة قالت: «ألا تعجل أبا هريرة جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح فقام قبل أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله لم يكن يسرد الحديث كسردكم».
وخرّج أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن هشام عن أبيه قال: «كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، وعائشة رضي الله عنها تصلي، فلما قضت صلاتها قالت لعروة: ألا تسمع إلى هذا أو مقالته آنفا؟ إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عدّه العاد لأحصاه».
وخرّج الترمذي من حديث عبد الله بن المثنى عن أبيه عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
ولابن حبان من حديث حسين بن علوان الكوفي، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} (68: 4)».
وخرج أبو بكر الشافعيّ من حديث عثمان بن مطر، عن ثابت عن أنس قال: «مرّ علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صبيان فقال: السلام عليكم يا صبيان». وقال عبد الملك بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحماء قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذاك، فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه فقال: يا بني! لقد شققت عليّ، إني هاهنا منذ ثلاث».
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق». وقال محمد بن حماد بن سلمه عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: «كنا يوم بدر تتعاقب ثلاثة على بعير، وكان عليّ وأبو لبابة زميلي رسول الله، فكان إذا كانت عقب رسول الله، يقولان له: اركب حتى نمشي، فيقول: إني لست بأغنى عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني». وخرجه الحاكم. وقال صحيح الإسناد. وخرّجه ابن حبان أيضا في صحيحه. وخرّج أبو يعلى من حديث يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، حدثنا عثمان ابن كعب، حدثني ربيع- رجل من بني النضر وكان في حجر صفية- عن صفية بنت حيي قالت: «ما رأيت قط أحسن خلقا من رسول الله، لقد رأيته راكب من خيبر على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسكني بيده ويقول: يا هذه مهلا، يا صفية بنت حيي!! حتى إذا جاء الصهباء قال: أما إني اعتذر إليك يا صفية مما صنعت بقومك!! إنهم قالوا لي كذا وكذا». وعن وهب بن منبه قال: قرأت أحدا وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا.
وأما شجاعته فخرّج البخاري في كتاب الأدب من حديث حماد بن زيد عن ثابت قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري (ما عليه سرج)، في عنقه سيف قال: وجدناه بحرا أو إنه لبحر».
وخرّجه مسلم وقال: «فانطلق ناس. وقال: فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت». وذكره البخاري في مواضع من كتاب الجهاد.
وخرّجه النسائي من حديث أبي خيثمة عن ابن إسحاق عن حارثة بن مغرب عن علي رضي الله عنه قال: «كنا إذا حمي البأس، والتقي القوم اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه». وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: «كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشجاع منا الّذي يحاذي به». وله من حديث إسحاق بن راهويه، حدثنا عمرة بن محمد، حدثنا عمر الزيات عن سعيد بن عثمان العبدري عن عمران بن الحصين قال: «ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب».
وخرّج الدارميّ من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا سعد عن عبد الملك بن عمير قال: قال ابن عمر: «ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أوضأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأما سعة جوده صلى الله عليه وسلم فخرّج البخاري في فضائل القرآن، وخرّج مسلم في المناقب من حديث شهاب عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان لأنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ الشهر، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (اللفظ لمسلم).
ولفظ البخاري: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود من الريح المرسلة»، (هذا اللفظ في كتاب فضائل القرآن).
ولفظه في كتاب الصيام بنحو إلا أنه قال: «وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان» (الحديث).
وذكره في أول كتابه، ولفظه: «كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة».
وذكره أيضا في المناقب، وفي كتاب بدء الخلق وقال فيه: «لرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة».
ولابن سعد من حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس وعائشة قالا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل».
وخرّج من حديث سفيان عن ابن المنكدر، سمعت جابرا يقول: «ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا!».
ولفظ مسلم: «ما سئل رسول الله شيئا فقال لا!» ذكره البخاري في كتاب الأدب، ولمسلم من حديث حميد عن موسى بن أنس عن أبيه قال: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة».
ومن حديث حماد بن سلمة عن أنس «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال يا قوم أسلموا فو الله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» (انفرد به مسلم).
وله من حديث ابن شهاب قال: «غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح (فتح مكة)، ثم خرج بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين. فنصر الله دينه والمسلمين، فأعطى رسول الله يومئذ صفوان بن أمية مائة من النّعم، ثم مائة»، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: «والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ».
ولأحمد بن حنبل رحمه الله، من حديث الزهري عن عمر بن محمد بن جبير ابن مطعم قال: حدثني محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم قال: «سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من حنين، فعلقه الأعراب فساء لونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف وقال: ردوا على ردائي، أتخشون عليّ البخل: فلو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا». (أخرجه البخاري وانفرد بإخراجه).
وخرّج الإمام أحمد من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال عمر: «يا رسول الله: لقد سمعت فلانا وفلانا يحسنان الثناء، يذكران أنك أعطيتهما دينارا، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لكن فلانا ما هو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة، فما يقول ذلك، أما والله إن أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبطها (يعني حتى تكون تحت إبطه يعني نارا)، قال: قال عمر: يا رسول الله! تعطيها إياهم؟ قال: فما أصنع يا عمر إلا ذاك؟ ويأبى الله لي البخل!!» وقال عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبر من تمر، فقال: ما هذا يا بلال؟ قال: أدّخره يا رسول الله، قال: أما تخشى أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا». وخرّج الترمذي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع على، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر: يا رسول الله لقد أعطيته وما كلفك الله مالا بعد، فكره النبي عليه السلام قول عمر، فقال رجل من الأنصار: رسول الله! أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله، وعرف البشر في وجهه لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أمرت». وقال قتيبة: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد».
ولأبي داود الطيالسي عن زمعة عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى».
وقال ابن سعد أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي المكيّ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثني زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: «ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا».
أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا أبو العلاء الخفاف خالد بن طهمان عن المنهال بن عمرو، عن محمد بن الحنفية قال-: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقول لشيء لا، فإذا هو سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت، فكان قد عرف ذلك منه».
وقال أبو يعلي: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، أخبرنا أبي، حدثنا هشام ابن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمه، «أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعكة من العسل. فإذا صاحبه يتقاضاه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: رسول الله! أعط هذا ثمن متاعه، فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتبسم، ويأمر به فيعطى».
ولابن حبان من حديث الأوزاعي عن هارون بن رباب عن أنس قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون ألف درهم- هو أكثر مال أتى به- فوضع على حصير ثم قام فقسمه، فما رد سائلا حتى فرغ منه».
وقال الواقدي في حجة الوداع: «ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء، فصلّى العصر بالمنصرف ثم صلّى المغرب والعشاء وتعشى به، وصلّى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج، فحدثني أبو حمزة عبد الواحد ابن مصون عن عروة بن الزبير، عن أسماء بنت بي بكر رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: إن عندي بعيرا محمل عليه زادنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك إذا قالت: فكانت زاملة رسول الله وأبي بكر واحدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بزاد، دقيق وسويق، فجعلا على بعير أبي بكر، فكان غلامه يركب عليه عقبة، فلما كان بالأثاية عرّس الغلام وأناخ بعيره، فغلبته عيناه، فقام البعير يجر خطامه آخذا في الشعب، وقام الغلام فلزم الطريق يظن أنه سلكها وهو ينشده فلا يسمع له بذكر، ونزل رسول الله في أبيات بالعرج، فجاء الغلام مظهرا، فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: ضل مني، قال: ويحك! لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر، ولكن رسول الله وأهله، فلم يلبث أن طلع به صفوان بن المعطل- وكان صفوان على ساقة الناس- وأناخه على باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي بكر: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فنظر، فقال. ما نفقد شيئا إلا قعبا كنا نشرب به، فقال الغلام: هذا القعب معي، فقال أبو بكر رضي الله عنه أدي الله عنك الأمانة».
حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالعرج، جلس معنا منزله ثم جاء أبو بكر فجلس إلى جنبه، فجاءت عائشة فجلست إلى جنبه الآخر، وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، فأقبل غلام أبي بكر متسربلا، فقال له أبو بكر-: أين بعيرك؟ قال: أضلني، فقام إليه يضربه ويقول: بعير واحد يضل منك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسّم ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع، وما ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثني أبو حمزة عن عبد الله بن سعد الأسلمي عن آل نضلة الأسلمي أنهم خبّروا أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلّت فحملوا جفنة من حيس، فأقبلوا بها، حتى وضعوها بين يدي رسول الله، فجعل يقول: هلم يا أبا بكر، فقد جاءك الله بغداء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال النبي عليه السلام: هون عليك، فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك، قد كان الغلام حريصا أن لا يضل بعيره، وهذا أخلف مما كان معه، فأكل رسول الله وأهله وأبو بكر، وكل من كان مع رسول الله حتى شبعوا- قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد رضي الله عنه بزاملة تحمل زادا يؤمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يجد رسول الله واقفا عند باب منزله، قد أتي الله بزاملته، فقال سعد: يا رسول الله! قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بازملتكما، بارك الله عليكما، أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا بالمدينة؟
قال: يا رسول الله! المنّة للّه ولرسوله، والله يا رسول الله، للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الّذي تدع، قال صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت، إن الأخلاق بيد الله، فمن أراد أن يمنحه منها خلقا صالحا منحه، ولقد منحك الله خلقا صالحا، فقال سعد: الحمد للّه الّذي هو فعل ذلك، قال ثابت بن قيس: يا رسول الله، إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا، والمطعمون في المحل منا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، لهم ما أسلموا عليه»
، قال ابن أبي الزّناد: يقول له جميل ذكره.
وأما تواضعه وقربه فخرج سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث أبي الأحوص عن مسلم الأعور عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب دعوة الملوك ويركب الحمار، وكان يوم خيبر على حمار، ويوم قريظة على حمار مخطوم من ليف تحته إكاف ليف».
وخرّجه الترمذي من حديث علي بن مسهر عن مسلم الأعور عن أنس بنحو هذا، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يضعّف، وهو مسلم بن كيسان الملائي، ذكره الترمذي في الجنائز.
وخرّج البخاري في الأدب المفرد من حديث ابن المبارك، أخبرنا سلمى أبو قتيبة، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: «رمدت عيني فعادني النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا زيد، لو أن عينك لما بها، كيف كنت تصنع؟ قال: كنت أصبر وأحتسب، قال: لو أن عينك لما بها ثم صبرت واحتسبت كان ثوابك الجنة». وخرّج أيضا من حديث حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: «ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة آتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد، والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنو بعيرا له فقال: أمعك تمرات؟ قلت: نعم، فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فا الصبي، فأوجدهن إياه، فتلمظ الصّبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم حب الأنصار، وسماه عبد الله». وخرج البخاري في الصحيح من حديث إبراهيم عن الأسود قال: «سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله- (تعني خدمة أهله)- فإذا حضرت الصلاة. خرج النبي صلى الله عليه وسلم»، ذكره في كتاب الصلاة، وترجم عليه باب من كان في حاجة أهله، وأقيمت الصلاة فخرج، وذكره في كتاب النفقات ولفظه: سألت عائشة: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت؟ قالت: في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج». وترجم عليه باب خدمة الرجل في أهله وذكره، وذكره في كتاب الأدب ولفظه: «ما كان النبي يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله؟ فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة، ترجم عليه كيف يكون الرجل في أهله؟».
وخرج عبد الرزاق من حديث الزهري، وهشام بن عروة عن أبيه، «قال سأل رجل عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه؟ ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته».
وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة قالت: «قيل لعائشة ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلّي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه».
وخرج البخاري في كتاب الأدب من حديث هيثم، أخبرنا حميد الطويل، أخبرنا أنس قال: «إن كانت الأمة من إماء لأهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت».
وخرج مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، قال: أخبرنا سليمان ابن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتي بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها».
وخرج من حديث يزيد بن هارون عن عماد بن سلمة عن ثابت عن أنس «أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي إليك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها». وقال علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد والأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم».
وخرج الإمام أحمد عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس قال: «ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وذكر الحديث.
وخرجه عن إسماعيل بن علبة عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس، ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن أنس (لم يذكر عمرو بن سعيد).
وخرّج البخاري من حديث علي بن الجعد قال: حدثنا شعبة عن شيبان بن أبي الحكم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه مرّ على صبيان فسلم عليهم»، وأخرجه مسلم أيضا وقال ابن لهيعة: حدثني عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع صبي».
وخرّج البخاري في الأدب المفرد عن طريق وكيع عن معاوية بن أبي برد عن أبيه عن أبي هريرة قال: «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد الحسن أو الحسين ثم وضع قدميه فوق قدميه ثم قال شهق».
ومن طريق عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن راشد عن يعلي بن مرّة أنه قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام، فإذا بحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه، فجعل يمر مرة ها هنا، ومرة هاهنا يضاحكه، حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه ثم اعتنقه فقبّله، ثم قال: حسين مني وأنا منه، أحبّ الله من أحب الحسن والحسين، سبطان من الأسباط». ومن طريق ابن أبي فديك قال: حدثني هشام بن سعد عن نعيم المجمر عن أبي هريرة قال: «ما رأيت حسنا إلا فاضت عيناي دموعا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فوجدني في المسجد فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فما كلمني حتى جئنا سوق بني قينقاع، فطاف به ونظر ثم انصرف وأنا معه حتى جئنا المسجد، فاحتبى ثم قال: أين لكاع؟ أدع لكاعا، فجاء حسن يشتد فوقع في حجره، ثم أدخل يده في لحيته، ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح فاه في فيه ثم قال: اللّهمّ إني أحبه فأحببه، وأحب من يحبه».
وخرج الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس «أن رجلا قال: يا محمد- يا سيدنا وابن سيدنا- وخيرنا وابن خيرنا! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قولوا بقولكم، لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله». وخرجه النسائي بنحوه. وروي النّضر بن شميل عن شعبة عن قتادة قال: سمعت مطرف بن عبد الله ابن الشخير عن أبيه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت سيد قريش، فقال السيد الله، فقال: أنت أعظمها فيها طولا، وأعلاها فيها قولا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان»- وخرجه أبو داود والنسائي بنحوه أو قريبا منه. وخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث مسدد، أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا أبو مسلمة عن أبي نضرة عن مطرف، قال: «إني انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقالوا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله، قالوا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان». وللبخاريّ من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب وقد وارى التراب بطنه».
23 ولفظه: «لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة».
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن سلمة عن حميد عن أنس قال: «ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك».
وخرجه الترمذي ولفظه: «لم يكن شخص...، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب،» وخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أن رجلا سمع عبادة بن الصامت يقول: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث إلى رسول الله من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقام إليّ، إنما يقام للّه تبارك وتعالى». وخرج من حديث معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا والله ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقي نبي الله لقيه، كان يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب ويردف معه، ويلعق والله يده.
وقال جعفر بن عون: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن أبي مسعود، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم رجلا فأرعد فقال: هوّن عليك، فإنّي لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد». قال ابن الجوزي: وكذا رواه هاشم ابن عمرو الحمصي عن يونس عن إسماعيل عن قيس بن جرير، كلاها وهم! والصواب: عن إسماعيل، عن قيس مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث حميد ابن الربيع قال: حدثنا هشيم، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قام بين يديه استقبلته رعدة! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هوّن عليك، فإنّي لست ملكا، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
قال: وكذلك رواه يحيى بن سعيد القطان، وزهير بن أبي معاوية عن أبي خالد. وخرّج الحاكم من حديث عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: «أوتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ترعد فرائصه، قال: فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء». ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي {وما أنْت عليْهِمْ بِجبّارٍ فذكِّرْ بِالقرآن من يخافُ وعِيدِ} (50: 45) قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وخرج ابن حيان من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد بن سعيد ابن العاص الأموي عن علي بن زيد قال: قال أنس بن مالك. «أن كانت الوليدة من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيد رسول الله فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت». وله من حديث شعبة عن علي بن زيد عن أنس: «أن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله، فيدور بها في حوائجها حتى تفرغ، ثم يرجع».
وله من حديث المحاربي عن عبيد الله بن الوليد الصافي عن عبد الله بن عبيد ابن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله: كل- جعلني الله فداك- متكئا، فإنه أهون عليك، قال: لا، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد». وله من حديث أبي معشر عن سعيد المقبري، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إليّ أن ضع نفسك، فقلت نبيا عبدا». وخرّج الحافظ أبو نعيم الأصبهاني من حديث أيوب بن نهيك قال: سمعت أبا حازم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: «لقد هبط عليّ ملك من السماء ما هبط علي بني قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي- وهو إسرافيل- فقال: السلام عليك يا محمد، وقال: أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيّرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظر إليّ جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فقال النبي عند ذلك: نبيا عبدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أني قلت نبيا ملكا ثم أمرت لصارت معي الجبال ذهبا». قال أبو نعيم: حديث غريب من حديث أبي حازم وابن عمر، تفرد به أيوب بن نهيك، وأبو حازم مختلف فيه، فقيل سلمة بن دينار، وقيل محمد بن قيس المزني والله أعلم.
وله من حديث أيمن بن نايل قال: سمعت قدامة بن عبد الملك قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على ناقة صهباء، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك».
وخرج البخاري في الأدب المفرد من طريق الأعمش عن سلام بن شرحبيل عن حبه بن خالد وسواء بن خالد «أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا أو يناله، فأعاناه».
وخرّج الحاكم من حديث عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا ابن سليم عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل مكة ودنا منه على رحله متخشنا». قال هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وله من حديث الحسن بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم بحمار وهو يمشي، فقال: «اركب يا رسول الله، فقال: إن صاحب الدابة أحق بصدرها إلا أن تجعله لي، قال: قد فعلت».
وأما رقته ورحمته ولطفه فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف- امرأة قين يقال له أبو سيف- فانطلق يأتيه واتّبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت بين يدي رسول فقلت: يا أبا سيف! أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول، فقال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون».
وخرّج من حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن عمرو بن سعيد عن أنس ابن مالك قال: «ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخّن، وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع»، قال عمرو: فلما مات إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة». وخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟». وفي لفظ مسلم عن عائشة قالت: «قدم ناس من الأعراب على رسول الله فقال: تقبلون صبيانكم؟ فقالوا نعم؟ قالوا: لكننا ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة؟». وقد خرجا من حديث أنس: «رويدك يا أنجشة، سوقك بالقوارير»، يعني النساء، وفي لفظ: «ويحك يا أنجشة، رويدك بالقوارير»، وفي آخر: «يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير»، وفي آخر: «أيا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير».
وخرج البخاري في الأدب المفرد عن طريق مبارك عن ثابت عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنّها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنّها كانت تحب خديجة».
وقال الواقدي في مغازيه وقد ذكر فتح مكة: حدثني عبد الرحمن بن محمد عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج، رأى كلبة تهر على أولادها وهن حولها من ضعفها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاها، لا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها».
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن يحيى بن سعيد بن العاص عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعذر أبا بكر من عائشة، ولم يظن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينال منها بالذي نال منها، فرفع أبو بكر يده فلطمها وصكّ في صدرها، فوجد من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا بكر، ما أنا بمستعذرك منها بعد هذا أبدا».
وأما حسن عهده عليه السلام فخرج البخاري في المناقب من حديث الليث قال: كتب إليّ هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما غرت على امرأة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة- هلكت قبل أن يتزوجني- لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاه فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن».
وخرّجه مسلم من حديث أبي أمامة قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة- ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين- لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه تبارك وتعالى أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وأنه كان يذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها».
وخرّجه البخاري من حديث أسامة بنحوه، إلا أنه قال: «ثم يهدي في خلتها منها». ذكره في كتاب الأدب.
وخرّج أيضا من حديث حفص عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد». وفي لفظ: «ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة، قالت: فأغضبته يوما فقلت: خديجة!؟ فقال: إني رزقت بحبها».
وخرّج في حديث علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد- أخت خديجة- على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللّهمّ هالة. قالت: فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز قريش، حمراء الشّدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها».
وخرّج مسلم بمثله وقال: «فارتاح لذلك فقال: اللّهمّ هالة بنت خويلد».
وخرّج الحاكم من حديث أسد بن موسى، حدثنا مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة فإنّها كانت صديقة خديجة»، قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
ومن حديث عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة بنت خويلد رضي الله عنها».
قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
ومن حديث عفان: حدثنا حماد بن سلمة عن ابن عمير، عن موسى بن طلحة عن عائشة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر ذكر خديجة، فقلت: لقد أخلفك الله زوجا»، وقال حماد: «أعقبك الله عن عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول، قالت: فتغير وجهه تغيرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي وإذا رأى مخيلة الرعد والبرق، حتى يعلم أرحمة هي أم عذاب». قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وأما كراهته للمدح والإطراء فخرج البخاري في كتاب الأنبياء من حديث سفيان قال: سمعت الزفري يقول: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، أن رجلا قال: «يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يستجرينك الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله».
وخرّجه النسائي بنحوه وخرّجه أيضا ولفظه عن أنس، «أن ناسا قالوا، لرسول الله (الحديث)، وقال فيه، ولا يستهوينكم الشيطان، وقال: التي أنزلنيها الله».
ذكرهما في كتاب اليوم وليلة.
وخرّج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: «قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر فسلمنا عليه، فقلت: أنت ولدنا وأنت سيدنا. وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا، وأنت الجفنة الغراء، فقال: قولوا بقولكم ولا يستجرئنك الشيطان».
وخرجه النسائي بهذا الإسناد وقال: «لا يستهوينكم الشيطان»، ولم يذكر قوله، «وأنت الجفنة الغراء». وخرجه أبو داود من حديث سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن مطرف قال، «إني انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا، أنت سيدنا، قال: السيد هو الله، قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرئنكم الشيطان».
وأما حلمه وصفحه صلى الله عليه وسلم فخرّج الإمام أحمد من حديث جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «ساءل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعون فقيل: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تعطيهم الّذي ساءلوا، فإن كفروا أهلكتهم كما أهلكت من قبلهم قال: بل استأني بهم».
وخرّج البخاري من حديث شعيب، حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: «قدم طفيل بن عمرو الدوسيّ وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها فقيل: هلكت دوس، فقال: اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم». ذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب الدعاء للمشركين لتألفهم. وذكره في كتاب الدعاء في باب الدعاء للمشركين ولفظه: «قدم الطفيل ابن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم».
وذكره في آخر المغازي. وخرّجه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال: اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم». وخرّجه الإمام من حديث سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «جاء الطفيل بن عمرو الدوسيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه، فقال الناس. هلكوا، فقال: اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم، اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم، اللّهمّ اهد دوسا وأت بهم».
وخرّج البخاري في كتاب الاستئذان، ومسلم في الجهاد من حديث معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير، أخبرني أسامة بن زيد «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مرّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه، قال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟- يريد عبد الله بن أبي- قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الّذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة (و قال مسلم: البحيرة) على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الّذي أعطاك، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم». وأخرجاه من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب، وزاد مسلم: (و ذلك قبل أن يسلم عبد الله)، لم يذكر غير هذا.
وقال البخاري في حديث عقيل عن ابن شهاب عن عروة «أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية وأردف أسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة قبل وقعة بدر، فسار حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد الله- وفي المجلس أخلاط» (الحديث نحو ما تقدم)، وفيه: «يا أيها المرء لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، قال ابن رواحة: بلي يا رسول الله! فاغشنا به في مجالسنا، فإنّا نحب ذلك» (الحدى) وفيه: «حتى كادوا يتشاورون»، وقال: «أهل هذه البحرة»، ولم يقل في آخره: «فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم». ذكره في كتاب المرضى في باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار.
وأخرجاه أيضا من حديث شعيب بن أبي حمزة وابن أبي عقيق عن الزهري، فذكره البخاري في كتاب التفسير وفي كتاب الأدب في باب كنية المشرك، ولفظه: «أن رسول الله ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة وراءه يعود سعد ابن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي- وإذا في المجلس أخلاط الحديث» (إلى آخره)، وقال: «حتى كادوا يتشاورون». وقال: «أهل هذه البحرة». وقال في آخره بعد قوله: «فعفا عنه رسول الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: {ولتسْمعُنّ من الّذِين أُوتُوا الْكِتاب من قبْلِكُمْ ومن الّذِين أشْركُوا أذى كثِيرا} [3: 186]، وقال: {ودّ كثِيرٌ من أهْلِ الْكِتابِ لوْ يرُدُّونكُمْ من بعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّارا حسدا من عِنْدِ أنْفُسِهِمْ} [2: 109] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وقتل الله بها من قتل من صناديد الكفار وسادة قريش، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش، قال ابن أبيّ بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توحد، فبايعوا لرسول الله، فبايعوه».
وخرّج البخاري ومسلم من حديث أبي أمامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابن عبد الله بن عبد الله ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله عنه فأخذ بثوب رسول الله فقال: يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه؟- ولفظ البخاري: وقد نهاك ربك أن تصلي عليه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة، وسأزيد علي السبعين، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {ولا تُصلِّ على أحدٍ مِنْهُمْ مات أبدا ولا تقُمْ على قبْرِهِ} [9: 84]».
وذكره البخاري في كتاب التفسير، وخرّجه مسلم من حديث يحيى القطان عن عبيد الله بهذا الإسناد ونحوه، وزاد قال: فترك الصلاة عليهم. وخرّجه البخاري في كتاب اللباس في باب لبس القميص، من حديث يحيى ابن سعيد عن عبيد الله، أخبرني نافع بن عبد الله قال: «لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنّا، فلما فرغ آذنه، فجاء ليصلي عليه فجذبه عمر وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: {اسْتغْفِرْ لهُمْ أوْ لا تسْتغْفِرْ لهُمْ، إِنْ تسْتغْفِرْ لهُمْ سبْعِين مرّة فلنْ يغْفِر الله لهُمْ} [9: 80] فنزلت: {ولا تُصلِّ على أحدٍ مِنْهُمْ مات أبدا} [9: 84]، فترك الصلاة عليهم».
وذكره في كتاب الجنائز وقال فيه: «فقال آذنّي أصلي عليه فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر». وذكره في كتاب التفسير من حديث أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبيّ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه فأمره أن يكفّنه فيه، ثم قام يصلي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثوبه وقال: تصلي عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ قال: إنما خيّرني الله أو أخبرني الله فقال: {اسْتغْفِرْ لهُمْ أوْ لا تسْتغْفِرْ لهُمْ إِنْ تسْتغْفِرْ لهُمْ سبْعِين مرّة} (9: 80)، فقال: سأزيده على سبعين، قال: فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا معه، ثم أنزل عليه: {ولا تُصلِّ على أحدٍ مِنْهُمْ مات أبدا ولا تقُمْ على قبْرِه}(9: 84)».
وخرّج أيضا من حديث الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرني عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما مات عبد الله ابن أبيّ ابن سلوك، دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله وثبت إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا، كذا وكذا؟ قال: أعدد عليه قوله. فتبسم رسول الله وقال: أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيّرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تُصلِّ على أحدٍ مِنْهُمْ مات أبدا} [9: 84] إلى قوله: {وهُمْ فاسِقُون} [9: 84]، قال: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم». ذكره في الجنائز وفي التفسير، وخرّجه النسائي في الجنائز، وخرّجه الإمام أحمد أيضا.
وخرّج أحمد من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه «أن ثمانين رجلا من أهل مكة، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من التنعيم مستحلين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: {وهُو الّذِي كفّ أيْدِيهُمْ عنْكُمْ وأيْدِيكُمْ عنْهُمْ بِبطْنِ مكّة من بعْدِ أنْ أظْفركُمْ عليْهِمْ} [48: 24]».
وفي الصحيح: «أن ملك الجبال بلّغه عن الله تعالى تخييره بين أن يطبق على من كذبه الأخشبين، فقال عليه السلام: بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله»، كما ستراه في ذكر من حدث عنه عليه السلام، وتقدم ذكر خبر الأعرابي بالبرد، حتى أثر في عاتقه عليه السلام، فضحك وأمر له بعطاء.
وخرّج البخاري من حديث جرير عن منصوص عن أبي وائل عن عبد الله قال: «لما كان يوم حنين، آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسا في القسمة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، أو ما أريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته، فقال: من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وخرّج مسلم من حديث مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «قيل يا رسول الله، أدع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة». ذكره في كتاب البرّ والصلة. وقال القاسم بن سلام بن مسكين الأزديّ: حدثني أبي قال: حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلّى ركعتين ثم أتى بالكعبة، وأخذ بعضاد في الباب فقال: ما تقولون وما تظنون؟ قالوا: نقول: أخ كريم وابن عمّ حليم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقول كما قال يوسف، {لا تثْرِيب عليْكُمُ الْيوْم يغْفِرُ الله لكُمْ وهُو أرْحمُ الرّاحِمِين}(12: 92)، فخرجوا كأنما نشروا من القيود، قد دخلوا في الإسلام».
ولابن حبان من حديث ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن بعض آل عمر ابن الخطاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم الفتح أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية وأبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام، قال عمر: فقلت: قد أمكنني الله منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته، {لا تثْرِيب عليْكُمُ الْيوْم يغْفِرُ الله لكُمْ}(12: 92)، فانفضحت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم». وله من حديث عبد الله بن المغيرة: قال مالك بن أنس، حدثني يحيى بن سعيد عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقبّض الناس يوم حنين من فضة في ثوب بلال، فقال له رجل يا نبي الله! اعدل، فقال: ويحك، فن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل، فقال عمر رضي الله: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي». وله من حديث معاذ بن هشام الدستواني قال: حدثنا أبي عن قتادة عن عقبة ابن وشاح الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقليل من ذهب وفضة، فجعل يقسمه بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد! والله لقد أمرك الله أن تعدل، فما أراك تعدل، فقال: ويحك، من يعدل عليك بعدي؟ فلما ولّى قال ردوه عليّ رويدا». وله من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن عليه عن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده، «أن أخاه أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جيراني على ما أخذوا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس يزعمون أنك نهيت عن البغي فلم تتحلى به؟ فقال: إن كنت أفعل ذلك إنه لعلّي وما هو عليكم، خلّوا عن جيرانه». وله من حديث محمد بن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة، فجاء به إلى منزله، فالتمس التمر فلم يجده في البيت، قالت: فخرج إلى الأعرابي فقال: يا عبد الله، إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده، فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه، فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟ فقال: دعوه». وله من حديث إبراهيم بن الحكم بن أبان قال: حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة «أن أعرابيا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئا ثم قال: أحسنت إليك؟ قال: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون فقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفّوا ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل الأعرابي فدعاه إلى البيت، يعني فأعطاه فرضي، فقال: إنك جئنا فسألتنا فأعطيناك، وقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك، قال: نعم، فلما كان الغد أو العشي جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم هذا كان جائعا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنّا دعوناه إلى البيت فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، أكذاك؟ قال نعم، فجزاك الله من أهل عشيرة خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي، كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة: خلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشدّ عليها رحلها واستوى عليها، ولو أني تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار». وله من حديث الأعمش عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: «سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما، فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، فعقد ذلك عقدا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال-، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط».
وله من حديث على بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب عن أنس قال:
«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما سبّني سبّة قط، ولا ضربني ضربة ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد من أهله قال: دعوه فلو قدّر شيء كان». وقد تقدم حديث أنس هذا، ولكن أوردته لما في حديث ابن حبان هذا من الزيادة المفيدة.
وله أيضا من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف قال: حدثني أبي عن جدي قال: قال عبد الله بن سلام: «إن الله عز وجل أراد هدي زيد بن سعنة، قال: زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا قد عرفته في وجه محمد سوى اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أنطلق إليه لأخالطه وأعرف حلمه، فخرج يوما ومعه علي ابن أبي طالب، فجاءه رجل كالبدوي فقال: يا رسول الله، إن قرية بني فلان أسلموا، وحدثتهم أنهم إن أسلموا أتتهم أرزاقهم رغدا، وقد أصابتهم سنة وشدّة، وإني مشفق عليهم أن يخرجوا من الإسلام، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء يعينهم، قال زيد بن سعنة، فقلت، أنا أبتاع منك بكذا وكذا وسقا، فأعطيته ثمانين دينارا فدفعها إلى الرجل وقال: اعجل عليهم بها فأعنهم، فلما كان قبل المحل بيوم أو يومين أو ثلاث، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة في نفر من أصحابه، فجبذت رداءه جبذة شديدة حتى سقط عاتقه، ثم أقبلت بوجه جهم غليظ فقلت:
ألا تقضيني يا محمد، فو الله ما علمتكم يا بني عبد المطلب لمطل، فارتعدت فرائص عمر بن الخطاب كالفلك المستدير، ثم أومى ببصره إليّ وقال، أي عدوّ الله! أتقول هذا لرسول الله وتصنع به ما أرى وتقول ما أسمع؟ فو الّذي بعثه بالحق لو لا ما أخاف فوته لسبقني رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في تؤدة وسكون، ثم تبسم وقال: لأنا أحوج إلى غير هذا: أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه، اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذا؟ قال أمرني رسول الله أن أزيدك وكان ما دعتك: فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت الحبر، قال: فما دعاك إلى أن تفعل برسول الله ما فعلت وتقول له ما قلت؟ قلت: يا عمر، إنه لم يبق من علامات النبوّة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله حين نظرت إليه إلا اثنتان لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرتهما منه، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي للّه، فإنّي أكثرها مالا صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، قال: فرجع عمر وزيد بن سعنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمن به وصدّقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة»
.
وخرجه الحاكم من حديث الوليد بن مسلم به نحوه، وقال: هذا حديث صحيح، وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا محمد بن سعد، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثني من سمع الزهريّ يحدث «أن يهوديا قال: ما كان بقي شيء من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا ورأيته إلا الحلم، وإني أسلفته ثلاثين دينار إلى أجل معلوم، فتركته حتى إذا بقي من الأجل المعلوم يوم أتيته، فقلت: يا محمد أوفني حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مطل، فقال عمر رضي الله عنه: يا يهودي أجننت؟ أما والله لو لا مكانه لضربت الّذي فيه عيناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوج: إلى أن تكون أمرتني بقضاء ما عليّ، وهو إلى أن تكون أعنته في قضاء حقه أحوج، قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلما، قال: يا يهودي، إنما يحل حقك غدا، ثم قال يا أبا حفص، اذهب به إلى الحائط الّذي كان سألك أول يوم، فإن رضيه فأعطه كذا وكذا صاعا، وزده لما قلت له كذا وكذا صاعا، وإن لم يرض فأعطه ذلك من حائط كذا وكذا، فأتي به الحائط فرضى، وأعطاه رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمره من الزيادة، فلما قبض اليهودي تمره قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وإنه والله ما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلا إني كنت رأيت في رسول الله صفاته في التوراة كلّها إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم على ما وصف في التوراة، وإني أشهد أن هذا التمر وشطر مالي في فقرأء المسلمين، فقال عمر: فقلت: أو بعضهم، فقال: أو بعضهم وأسلم أهل بيت اليهود كلهم إلا شيخا كان له مائة سنة، فبقي على الكفر».
وقال إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هاشم عن زيد بن زائدة عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وإني سليم الصدر. فقال:
فأتاه مال فقسمه، فانتهيت إلى رجلين يتحدثان وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته التي قسم وجه الله والدار الآخرة، قال: فتثبتّ حتى سمعتها، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقلت: إنك قلت: لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، وإني سمعت فلانا وفلانا يقولان كذا وكذا، قال: فاحمرّ وجهه وقال: دعنا منك فقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر»
. وخرج مسلم من حديث زيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «قيل: يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: إنما لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة». انفرد بإخراجه مسلم.
وقال سفيان بن الحسن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما أنا رحمة مهداة». وقال الواقدي في مغازيه وقد ذكر فتح مكة: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل جماعة فذكرهم إلى أن قال: «وأما هبار بن الأسود فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما بعث سرية أمرها بهبار إن أخذ أن يحرق بالنار، ثم قال: إنما يعذّب بالنار ربّ النار، اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه، فلم يقدر عليه يوم الفتح، وكان جرمه أنه عس بابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وضرب ظهرها بالرمح- وكانت حبلي- حتى أسقطت فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه، إذا طلع هبار بن الأسود- وكان لسنا- فقال: يا محمد: أسب من سبك، إني قد جئت مقرًّا بالإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت سلمى مولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أنعم الله بك عينا، أنت الّذي فعلت وفعلت، فقال: إن الإسلام محا ذلك، ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن سبه والتعريض له». ثم قال: حدثني هشام بن عمارة عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: «كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود، قال: قد رأيته فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اجلس، ووقف عليه هبار فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحوق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك عن من جهل إليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك باللّه فهدانا باللّه بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإنّي مقر بسيئاتي معترف بذنبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله». ثم قال: حدثني واقد بن أبي ياسر عن يزيد بن رومان قال: قال الزبير ابن العوام رضي الله عنه: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هبارا قط إلا تغيّظ عليه، ولا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قط إلا قال: إن ظفرتم بهبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اضربوا عنقه، والله لقد كنت أطلبه وأسأل عنه، والله يعلم لو ظفرت به قبل يأتي إلى رسول الله لقتلته ثم طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده جالس، فجعل يعتذر إلى رسول الله يقول، سبّ يا محمد من سبّك وأوذي من آذاك، فقد كنت موضعا في سبّك وأذاك وكنت مخذولا وقد بصّرني الله وهداني للإسلام. قال الزّبير: فجعلت انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليطأطئ رأسه استحياء منه مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: قد عفوت عنك، والإسلام يجبّ ما كان قبله، وكان لسنا، وكان يسبّ حتى يبلغ منه فلا ينتصف من أحد، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله وما يحمل عليه من الأذى، فقال هبار: سبّ من سبّك».
وأما شفقته ومداراته فقال تعالى: «فبِما رحْمةٍ من الله لِنْت لهُمْ ولوْ كُنْت فظّا غلِيظ الْقلْبِ لانْفضُّوا من حوْلِك»(3: 159)، قال السمرقندي فيما نقل القاضي عياض، ذكّرهم الله تعالى منّته أنه جعل رسوله رحيما بالمؤمنين، رءوفا ليّن الجانب، ولو كان فظا خشنا في القول لتفرقوا من حوله، لكن جعله الله سمحا سهلا، طلقا برا لطيفا. هكذا قال الضحاك.
وخرج البخاري من حديث سليمان بن بلال قال: حدثني شريك بن عبد الله، سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمّه.
وخرّجه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس أنه قال «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يزد على هذا)».
وخرّجا من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمّه من بكائه». ترجم عليه باب من أخف صلاته عند بكاء الصبي، وذكر في هذا الباب في رواية أبي محمد الحموي وأبي الهيثم الكشميني حديث سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه».
وخرّج البخاري من حديث الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأقوم في الصلاة، وإني أريد أن أطوّل فيها». (الحديث). مثله ذكره في باب خروج النساء إلى المساجد.
ولمسلم من حديث يحيى بن يحيى قال: أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة».
وله من حديث عبد الله بن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق منهم رجال يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الصلاة أقبل على الناس ثم تشهد وقال، أما بعد، فإنه لم يخف عني شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها».
وخرّجه البخاري بنحوه، وزاد في آخره «فتوفي رسول الله والأمر على ذلك»، ذكره في باب فضل من قام رمضان، وفي كتاب الجمعة في باب من قال في الخطبة بعد الثناء، أما بعد، غير أنه لم يذكر الزيادة، وقال في بعض الموضعين: «أما بعد، فإنه لم يخف عليّ مكانكم».
وخرّج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثم صلّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما. صبح قال، قد رأيت الّذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا إنني خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان». ذكره البخاري في باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب ولم يقل فيه أبو داود: والرابعة. ذكره في باب قيام شهر رمضان، وذكر بعده متصلا به حديث محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن عائشة قالت: «كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعا، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيرا فصلّى فيه رسول الله بهذه.........................................» القصة، قالت فيه: «قال- يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: أيها الناس، أما والله ما بتّ ليلتي هذه بحمد الله غافلا، ولا خفي علي مكانكم» وللبخاريّ من حديث يحي بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّى من الليل في حجرته- وجدار الحجرة قصير- فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقام ناس يصلون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا حتى إذا كان بعد ذلك، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل»، ذكره في باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة. وخرّج الإمام أحمد من حديث معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمله كراهية أن يستن الناس به فيفرض عليهم، وكان يحب ما خفف من الفرائض».
وخرّج مسلم من حديث حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار! فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار». انفرد بإخراجه مسلم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون قال: حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: «إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، يا رسول الله جعلني الله فداك، قال ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء».
وخرّج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر ابن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلى قول الله عز وجل: {إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا من النّاسِ فمنْ تبِعنِي فإِنّهُ مِنِّي}(14: 36) وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعذِّبْهُمْ فإِنّهُمْ عِبادُك وإِنْ تغْفِرْ لهُمْ فإِنّك أنْت الْعزِيزُ الْحكِيم} (5: 118) فرفع يديه ثم قال: اللّهمّ أمتى أمتى، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره بما قال الله تعالى: فقال الله تعالى: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك». وخرّج البخاري من حديث همام، حدثنا إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أعرابيا يبول في المسجد! فقال: دعوه، حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه. ترجم عليه، باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله».
وخرّجه مسلم من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة قال: حدثني أنس بن ملك- وهو عم إسحاق- قال: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تزرموه لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن- أو كما قال رسول الله- قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فصبّه عليه».
وأخرجاه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع أنس بن مالك يذكر «أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها، فصاح بن الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوه فلما فرغ أمر رسول الله بذنوب فصب عليه». اللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري قال: «جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه». ذكره في باب صب الماء على البول في المسجد.
وخرّج البخاري ومسلم والنّسائي من حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس «أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، ولا تزرموه، فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبّه عليه». لفظهما فيه سواء. وقال النسائي بعد قوله: «لا تزرموه»، لا تقطعوا بوله.
وفي لفظ للبخاريّ، «أن أعرابيا بال في المسجد فقاموا إليه: فقال رسول الله: لا تزرموه، ودعا بدلو من ماء فصب عليه». ذكره في كتاب الأدب، في باب الرّفق في الأمر كله.
وخرّج البخاري والنسائي من حديث الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال: «قام أعرابي في المسجد فبال: فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسّرين». ذكره البخاري في باب صب الماء على البول في المسجد وخرّجه في كتاب الأدب ولفظه: أن أبا هريرة أخبره «أن أعرابيا بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله، دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». ذكره في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «يسّروا ولا تعسّروا»، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس.
وخرّج أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، «أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلّى ركعتين ثم قال: اللّهمّ ارحمني ومحمدا، ولا ترحم منا أحدا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجّرت واسعا، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلا من ماء، أو قال: ذنوبا من ماء» وقال الترمذي: «أهريقوا عليه سجلا من ماء أو دلوا من ماء»، وقال... أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: «دخل أعرابي المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، قال: فيه: فلما فرغ قال». وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
قال مؤلفه: ذكر البخاري قول الأعرابي: اللّهمّ ارحمني ومحمدا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له، ولم يذكر فيه أنه بال في المسجد.
وخرّج مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر عن عروة عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له فبئس أخو العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت يا رسول الله! قلت الّذي قلت ثم ألنت له القول؟ قال يا عائشة إن شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه الناس اتقاء فحشه».
وخرّج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابن يسار عن معاوية بن الحكم قال: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله: فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمّاه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتونني، لكني سكتّ، فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فبأبي وأمي- ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن- أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهّان، قال: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم، قال: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكّة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليّ، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها: فقال لها أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال أعتقها فإنّها مؤمنة». وخرّجه أبو داود قريبا منه، ذكره في باب تشميت العاطس في الصلاة وفيه، «قلت: يا رسول الله، إنا حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام، ومنا رجال يأتون الكهان، قال: فلا تأتونهم. وقال: فلا يصدنهم، وقال فيه، قلت: جارية لي كانت ترعي غنيمات قبل أحد والجوانية، إذا طلعت عليها إطلاعة» الحديث.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن قال يبني على صلاته إذا تكلم ناسيا أو جاهلا الشعبي والأوزاعي ومالك والشافعيّ وقال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي: إذا تكلم ناسيا استقبل الصلاة، وفرق أصحاب الرأي بين أن يتكلم ناسيا وبين أن يسلم ناسيا، فلم يوجبوا عليه الإعادة في السلام كما أوجبوها عليه في الكلام.
وقال الأوزاعي: من تكلم في صلاته عامدا بشيء يريد به إصلاح صلاته لم تبطل صلاته، وقال في رجل صلّى العصر فجهر بالقرآن، فقال رجل من ورائه إنها العصر، لم تبطل صلاته، وفي الحديث دليل على أن المصلي إذا عطس فشمته رجل فإنه لا يجبيه.
واختلفوا إذا عطس وهو في الصلاة هل يحمد الله؟ فقالت طائفة: يحمد الله.
روي عن ابن عمر أنه قال العاطس في الصلاة يجهر بالحمد، وكذلك قال النخعي وأحمد بن حنبل:
وهو مذهب الشافعيّ إلا أنه يستحب أن يكون ذلك في نفسه.
وقوله (يصمتوني) ومثله يسكتوني: معناه يطلبون منى أن أسكت، وقد حذف نون الرفع وقرئ كما في قوله تعالى: {قُلْ أفغيْر الله تأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الْجاهِلُون}(39: 64) بنون واحدة مخففة.
وقوله في الطيرة «ذلك شيء يجدونه في صدورهم» يريد أن ذلك شيء يوجد في النفوس البشرية وما يعتري الإنسان من قبل الظنون والأوهام من غير أن يكون له تأثير من جهة الطباع أو يكون فيه ضرر كما كان زعمه أهل الجاهلية.
وقوله: (و منا رجال يخطون) فإن الخط عند العرب فيما فسره ابن الأعرابي أن يأتي الرجل العرّاف.
وخرّجه النّسائي أيضا وفي حديث لأبي داود من طريق فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال: «لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني أمورا من أمور الإسلام، فكان فيما علّمت: أن قيل لي: إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل: يرحمك الله، قال: فبينما أنا قائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذا عطس رجل فحمد الله، فقلت: يرحمك الله- رافعا بها صوتي- فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، فقلت: ما لكم تنظرون إلى بأعين شزر؟ قال: فسبّحوا، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي، فدعاني رسول الله، فقال: إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله عز وجل، فإذا كنت في الصلاة فليكن ذلك شأنك، فما رأيت معلما قط أرفق من رسول الله».
وخرّج البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن عليه قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا فسألنا عن من تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم وبروهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم»، اللفظ لمسلم.
ولفظ البخاري: عن أبي قلابة عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: «أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلينا، فأخبرناه- وكان رفيقا رحيما- فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم وبروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم. ذكره في كتاب الأدب في باب رحمة الناس».
وأخرجاه أيضا من حديث عبد الوهاب الثقفي وحماد بن زيد عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة: يا مالك بن الحويرث أبو سليمان، قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وناس ونحن شببة متقاربون، وأقمنا جميعا» الحديث بنحو حديث ابن علية.
وذكره البخاري أيضا في باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، من حديث عبد الوهاب، وذكره في كتاب الصلاة في باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم من حديث حماد بن زيد عن أيوب، وذكره في باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد من حديث وهيب عن أيوب.
وأخرجاه من حديث خالد الحذّاء عن أبي قلابة، وذكره البخاري في باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، وذكره في باب اثنان فما فوقهما جماعة مختصرا.
وخرّج ابن حبان والبخاري في الأدب المفرد من طريق أبي نعيم، حدثنا ابن الغسيل عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد قال: «لما أن أصيب أكحلي بعد يوم الخندق وثقل، حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة- وكانت تداوي الجرحى- فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرّ به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح يقول: كيف أصبحت؟ فيخبره».
وخرّج الحاكم من حديث شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبى فأمرني ببيع أخوين فبعتهما وفرّقت بينهما ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: أدركهما فارتجعهما وبعهما جميعا ولا تفرق بينهما». قال الحاكم: هذا حديث غريب صحيح على شرط الشيخين.
وخرج ابن حبان من حديث يحيى بن أبي بكير العبديّ قال: حدثنا عباد ابن كثير عن ثابت عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من أصحابه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا عاله، وإن كان شاهده زاره، وإن كان مريضا عاده».
وبلغ من مداراة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد قتيلا من أصحابه بين اليهود فلم يحف عليهم، بل حملهم على مرّ الحق، وجاد بأن وداه بمائة من الإبل وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد.
وخرّج مسلم من حديث مالك قال: حدثني أبو ليلي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل عن أبي خنتمة أنه أخبر عن رجال من كبراء قومه «أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتي يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قوم وذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة- وهو أكبر منه- وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم- وهو الّذي بخيبر- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة: كبّر كبّر (يريد السن) فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم، قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة حتى أدخلت الدار، فقال سهل: فقد ركضتني منها ناقة حمراء».
وخرّجه في كتاب الأحكام، ولم يقل حمراء. وخرّجه أبو داود في باب القتل بالقسامة. وخرّجه النسائي في كتاب الأحكام وفي القسامة.
وكان من حسن مداراته صلى الله عليه وسلم أن لا يذم طعاما ولا ينه خادما كما تقدم بطرقه.
وخرّج الحاكم من حديث يزيد بن هارون: أخبرنا جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الله بن أبي يعقوب يحدث عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي النهار- الظهر أو العصر- وهو حامل الحسن، فتقدم فوضعه عند قدمه اليمني، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة أطالها، فرفعت رأسي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، وإذا الغلام راكب ظهره، فعدت فسجدت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ناس: يا رسول الله! لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أشيء أمرت به أو كان يوحي إليك؟ فقال: كل ذلك لم يكن، ابني ارتحلني فكرهت أن أعلجه حتى يقضي حاجته».
وأما اشتراطه على ربه أن يجعل سبه لمن سب من أمته أجرا فخرّج البخاري من كتاب الدعاء من حديث يونس عن ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهمّ فأيّما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة». وخرّج مسلم بنحوه وقال «فأيما عبد». وله من حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهمّ إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيّما مؤمن سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة» وله من حديث جرير عن الأعمش عن أبي الضحي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه فلعنهما وسبّهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان؟ قال وما ذاك؟ قلت: لعنتهما وسببتهما! قال: أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت: اللّهمّ إنما أنا بشر فأيّما أجد من لمسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجرا».
وخرّجه من حديث علي بن حجر السعدي وإسحاق بن إبراهيم وعلي ابن خشرم عن عيسى بن يونس عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث جرير وقال فيه: «فخلوا به فسبّهما ولعنهما وأخرجهما». وله من حديث عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللّهمّ إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة».
وخرّجه البخاري من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مثله، إلا أن فيه: زكاة وأجرا. وله من حديث المغيرة عن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللّهمّ إني اتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة».
وله من حديث الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن سالم مولى النصريين قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللّهمّ إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفّارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة». وله من حديث جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما أنا بشر، وإني اشترطت على ربي عز وجل أيّ عبد من المسلمين سببته أو شتمته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا».
وخرّج مسلم أيضا من حديث عكرمة بن عمّار قال: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كانت عند أم سليم يتيمة- وهي أم أنس- فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال: أأنت هيه، لقد كبرت لا كبر سنّك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا منيّمة؟ قالت الجارية: دعا عليّ نبي الله ألا يكبر سني! فالآن لا يكبر سني أبدا، أو قالت: قرني، فجرت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله؟ أدعوت علي يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر: فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربها بها يوم القيامة». انفرد بإخراجه مسلم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن أبي ذؤيب قال: حدثني محمد بن عمر ابن عطاء عن ذكوان مولى عائشة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بأسير فلهوت عنه فذهب: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل الأسير؟
قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك؟ قطع الله يدك! فخرج فأذن به الناس فطلبوه، فجاء به فدخل عليّ وأنا أقلب يدي فقال: أجننت! قلت: دعوت عليّ فأنا أقلب يدي انظر أيهما يقطعان، فحمد الله وأثنى عليه ثم رفع يديه مدا وقال: اللّهمّ إني بشر، أغضب كما يغصب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه فاجعله له زكاة وطهورا»
.
وله من حديث محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة أن عائشة قالت: «إن أمداد العرب كثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقام إليه المهاجرون يعرجون عنه حتى قام على عتبة عائشة فرهقوه فأسلم رداءه في أيديهم ووثب عن العتبة فدخل فقال: اللّهمّ العنهم، فقالت عائشة: يا رسول الله! هلك القوم، فقال: كلا والله: يا بنت أبي بكر، لقد شرطت على ربي شرطا لا خلف له فقلت: إنما أنا بشر: أضيق بما يضيق به البشر: فأي المؤمنين بدرت إليه مني بادرة فاجعلها له كفارة».
وأما مزاحه وملاعبته فخرّج الترمذي من حديث عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقا». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
وخرّج أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من حديث خالد عن حميد عن أنس رضي الله عنه «أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله احملني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا حاملوك على ولد ناقة، قال: وما أصنع بولد ناقة؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النّوق؟». وخرّج أبو داود من حديث يونس عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن النعمان بن بشير قال: «استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة- رضي الله عنه- عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قال: فمكث أبو بكر رضي الله عنه أياما، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا: فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا قد فعلنا».
وله من حديث بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولانيّ عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فسلمت فردّ وقال: أدخل، فقلت: أكلّي يا رسول؟ قال: كلّك، فدخلت، قال عثمان ابن أبي العاتكة، إنما قال أدخل كلى من صغر القبّة».
وخرّج أبو داود والترمذي من حديث شريك عن عاصم عن أنس قال: «ربما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين، يمازحه». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وله من حديث المبارك بن فضالة عن الحسن قال: «أتت عجوز للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أدع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله يقول: {إِنّا أنْشأْناهُنّ إِنْشاء فجعلْناهُنّ أبْكارا عُرُبا أتْرابا} (56: 35- 37)».
وخرّج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس «أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا أو حزام بن حجال: وكان يهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن زاهرا بادينا ونحن حاضروه، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه وكان رجلا دميما: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا! فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه: وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: لكن عند الله أنت غال». وخرّج أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج الأندلسي في كتابه في تسمية من روي عن مالك بن أنس من حديث عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: «مازح النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقال: ضرب الله عنقك، فقال: في سبيله يا رسول الله! قال في سبيله».
وخرّج الإمام أحمد من حديث سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني فقال: هذه بتيك».
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي حفص المعيطي قال: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالى حتى أسابقك فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس تقدموا فقدموا، فقال تعالى حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك، وهو يقول هذه بتلك».
وخرّج أبو بكر الشافعيّ من حديث يحيى بن سعيد القطان عن الصلت ابن الحجاج عن عاصم الأحوال عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها ذات يوم: ما أكثر بياض عينيك!» وله من حديث ابن المبارك قال: حدثنا حميد الطويل عن ابن أبي الورد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه، قال: «فرأى رجلا أحمر فقال: أنت أبو الورد؟» ولأبي بكر بن أبي شيبة من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي، فيرى الصّبيّ حمرة لسانه فيهش إليه».
ولابن حبان من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة قال: سمعت عبد الله بن يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي داود عن طفيل بن سنان عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا». وقال صلى الله عليه وسلم للصبي: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» وقال شعبة: حدثني علي بن عاصم عن خالد الحذّاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة».
وقال ابن لهيعة عن عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس».
وقال خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزّاحا: وكان يقول: إن الله لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه».
وقال وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت زيد بن أسلم يحدث أنّ خوّات ابن جبير قال: «نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ الظهران فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فأخرجت حلّة لي من عيبتي فلبستها ثم جلست إليهن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته فقال: أبا عبد الله! ما يجلسك إليهن؟ قال: فقلت يا رسول الله: جمل لي شرود أبتغي له قيدا: فمضى رسول الله وتبعته: فألقى رداءه ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال: يا أبا عبد الله! ما فعل شراد جملك؟ ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المنزل إلا قال: السلام عليكم أبا عبد الله: ما فعل شراد جملك؟ قال: فتعجلنا إلى المدينة فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله، فلما طال ذلك عليّ تحينت ساعة خلوة، فجعلت أصلّى، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض حجره، فجاء فصلّى ركعتين خفيفتين ثم جلس، وطوّلت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال طوّل يا أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف، فقلت والله لأعتذرن إلى رسول الله، فانصرفت، فقال: السلام عليكم يا أبا عبد الله، ما فعل شراد الجمل؟ فقلت: والّذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: رحمك الله مرتين أو ثلاثا: ثم أمسك عني فلم يعد». اهـ.